المادة    
الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد, وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين.
أما بعد:
أيها الإخوة والأخوات! فكما نعلم كان الحديث في اللقاءات الماضية متعلقاً في جملته بعموم التاريخ البشري ونشأة الحضارة، وما يرتبط بذلك من قضايا هي مثار النقاش والنزاع والجدل حول المناهج الثلاثة التي تقدم الحديث عنها.
قضيتنا اليوم من القضايا المرتبطة بذلك, وموضوعها هو: مهد التاريخ، ونشأة الحضارة أو نشأة التاريخ؛ بمعنى البيئة الجغرافية والمحيط الثقافي الذي وجدت فيه هذه الحضارة البشرية، أو ما ترجع الأصول الحضارية البشرية المعروفة إليه.
والحقيقة أن هذه القضية بالنسبة للفكر الإسلامي ليست ذات إشكال؛ لأن -كما نعلم- الإسلام دين عالمي؛ فهو للعالمين أجمعين، ولا يؤثر كثيراً عندنا في الإسلام أن تكون أية أرض اختارها الله عز وجل هي التي سبقت في شيء ما من الحضارة؛ من العلوم أو الفنون أو ما أشبه ذلك، فلا إشكال في ذلك، الأرض كلها أرض الله، والخلق كلهم عباد الله، فإن كان السبق من جماعة مؤمنة فلا إشكال على الإطلاق, وإن كان ممن لا يؤمن بالله تبارك وتعالى فذلك أدعى لقيام الحجة عليه.
فالحضارة الغربية الحديثة سبقت في أمور كثيرة جداً, ولا إشكال ولا حرج؛ بل عندما نقرأ في القرآن نجد أن هناك ما يدل دلالات واضحة على أن الأمم التي تطغى وتتجبر، وتنسى ذكر الله سبحانه وتعالى تـُمكّن استدراجاً من الله تبارك وتعالى: (( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى ))[الأنعام:44], وغير ذلك, ليس هذا موضوعنا.
المقصود أن القضية ليست بالأهمية التي يوليها الفكر التاريخي المجرد؛ فالفكر التاريخي المجرد أو المعرفي المجرد يرى ضرورة معرفة وتحديد أين نشأت الحضارة؟ وكيف بدأت الكتابة؟ ومن أول من أوجد ذلك؟ وكيف انتقلت؟!
وقد تمضي أحقاب وأجيال ويختلف الباحثون وتنفق أموال طائلة في الإجابة على مثل هذه الأسئلة وما أشبهها وما تفرع عنها، مع أنها قليلة الأهمية من حيث الجوهر في نظرنا نحن؛ فليست هناك أي نظرة قومية على الإطلاق ولا نجدها عندما نتحدث -في هذا الموضوع اليوم مثلاً- عن الموطن الحقيقي الذي نرى أنه بالفعل هو موطن الحضارة وهو مهد التاريخ، وهو الذي انطلقت وتنطلق منه أنوار المعرفة والعلم واليقين ثم تضيء على البشرية جمعاء؛ ألا وهو: شبه الجزيرة العربية أو جزيرة العرب كما ترد في النصوص الشرعية.